اقتصاد العشائر في دير الزور: لا جدوى تنموية من تفتيت المفتت.. بقلم: زياد غصن

09:59 16-09-2023

بقلم: زياد غصن

على خلفية المواجهات المسلحة المستمرة منذ عدة أيام بين مقاتلي العشائر العربية وعناصر "قسد" شمال شرقي سورية، جرى خلال الفترة الماضية تداول مجموعة من السيناريوهات التي يمكن أن تفضي إليها هذه المواجهات، من بينها تولي العشائر العربية مهمة إدارة شؤون مناطق الريف الشرقي لمحافظة دير الزور.

ويبدو أن هذا السيناريو يحظى بقبول أميركي فيما لو استقرت أمور الميدان على هذا المخرج، بالنظر إلى كونه سيناريو يتوافق ومشروع "التفتيت" الجغرافي والاقتصادي والديموغرافي لسوريا. وإذا ما وجد هذا السيناريو طريقه إلى النور، فإن اقتصاد البلاد بحدودها الجغرافية والمعترف عليها دولياً سيكون مؤلفاً من 5 اقتصاديات هي: اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، واقتصاد المناطق التي توجد فيها "الإدارة الذاتية"، واقتصاد المناطق التي تقبض عليها "هيئة تحرير الشام"، واقتصاد المناطق التي تحتلها القوات التركية والفصائل التي تدعمها، واقتصاد مناطق سيطرة العشائر العربية.

لكن هل يملك الريف الشرقي لدير الزور من الموارد والإمكانيات ما يؤهله لتأمين احتياجات السكان وتوفير الموارد اللازمة أو يكون معنياً في النهاية بالتنسيق مع دمشق والتعاون مع مؤسسات الدولة أو يخضع بشكل أو بآخر لسيطرة "قسد"؟

اقتصاديات مفتتة

عموماً، يمكن القول إن جميع الاقتصاديات الناشئة على الأرض السورية بفعل تبدل خرائط السيطرة الميدانية محكوم عليها بالموت أو الفشل لعدة أسباب، نجملها بالآتي:

- خضوعها لقوى عسكرية جلّ همها تسخير الموارد الاقتصادية الموجودة في هذه المنطقة أو تلك من أجل المحافظة على عناصر قوتها وترسيخ سيطرتها، وتالياً فإن جميع الإجراءات والسياسات المتبعة هي سياسات آنية واستغلالية لا تضع نصب عينيها بناء اقتصاد مستدام ونوعي، وربما تكون الاشتباكات الأخيرة بين العشائر العربية ووحدات "قسد"، والناجمة جوهرياً عن الإهمال التنموي الذي تمارسه "الإدارة الذاتية" بحق مناطق واسعة من الجزيرة السورية، خير مثال على ما سبق.

- هذه الاقتصاديات محاصرة عسكرياً واقتصادياً باعتبارها اقتصاديات متهمة بمحاولة تعزيز فكرة التفتيت الجغرافي والاقتصادي. وتالياً، فهي لا تملك أي عوامل أمان واستقرار يمكنها أن تسهم في تطورها وازدهارها. مثلاً، اقتصاد الجزيرة الذي تديره "الإدارة الذاتية" محاصر من دمشق وتركيا والعراق لأسباب معروفة، وليس له من منفذ سوى إقليم كردستان العراق، وكذلك الحال بالنسبة إلى اقتصاد إدلب المسير من قبل "هيئة تحرير الشام"، واقتصاد المناطق المحتلة تركياً.

- افتقادها الموارد والثروات التي يمكن أن تؤمن لها اكتفاءً ذاتياً أو تجعلها قريبة من تحقيق ذلك، وهذا ما يجعل من عودة ارتباطها بالاقتصاد الوطني للبلاد خياراً لا بد منه، وإلا فإنها ستبقى اقتصاديات مبعثرة ومجزأة وضعيفة، أياً كانت ما تملكه من هذه الثروة أو تلك، لا سيما في ظل العوامل الإقليمية والدولية الرافضة لوجودها.

وبناء عليه، فإن إمكانية منح العشائر العربية مهمة إدارة شؤون الريف الشرقي لدير الزور وتحت أي صيغة ستخلق اقتصاداً جديداً لن يكون أفضل حظاً من الاقتصاديات المتشكلة خلال سنوات الأزمة ومجرياتها، لكن ربما سيكون لديه فرصة للتنسيق والتعاون مع دمشق في حال ابتعاده عن أي مظهر من مظاهر الانفصال والتبعية للأميركي.

ومع ذلك، وقبل الحكم على مصير ذلك السيناريو فيما لو قدر له أن يتحقق، لنستعرض معاً أبرز المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بمحافظة دير الزور خلال سنوات الأزمة، وهي مؤشرات جرى الاستعانة بها من مصادر رسمية وغير رسمية، ليكون حكمنا قريباً من الواقع بمختلف تجلياته.

قبل السنوات العجاف

ليست هناك إلى الآن أي مؤشرات ترصد واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، لكن بالعموم فإن مناطق الريف الشرقي، وإن كانت أقل تعرضاً للدمار والتخريب مقارنة بما تعرضت له المدينة، إلا أنها في جميع الأحوال عانت ولا تزال تعاني من تبعات تداعيات سنوات الأزمة التي يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأول ما حملته السنوات السبع الأولى من عمر الأزمة، والتي شهدت تبايناً في قوى السيطرة، من الفصائل المسلحة المحلية إلى التنظيمات الجهادية الكبرى، "كالنصرة"، ومن ثم "داعش"، وهي فترة شهدت فوضى كبيرة أثرت سلباً في معيشة السكان وحياتهم وعاداتهم واستثمار الموارد والثروات الموجودة.

أما القسم الثاني، فهو ممتد منذ سيطرة "قسد" على مناطق الريف الشرقي ولغاية الوقت الراهن، وقد تعاملت "قسد" مع تلك المناطق بإهمال كبير، وهو ما خلق حالة من الاحتقان الشعبي تفجرت مؤخراً على هيئة اشتباكات مسلحة مع عناصر "قسد".

بالعودة إلى بيانات ما قبل الأزمة، فإن البيانات البحثية غير الرسمية تشير إلى أن قطاعي الزراعة والتعدين كانا يستحوذان على نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي لمحافظة دير الزور، لكن مع تفوق محدود جداً للقطاع الزراعي الذي كان يشكل ما نسبته 30.36% من إجمالي الناتج المحلي للمحافظة، فيما كانت نسبة قطاع التعدين واستغلال المحاجر نحو 29.64%، وثالثاً جاءت الخدمات بنسبة 14.22%.

وبفعل الحرب، تعرضت القطاعات الثلاثة لأضرار كبيرة أثرت من دون شك في قيمة الناتج المحلي للمحافظة، إلا أنها لم تحدث أثراً في تركيبة الناتج المحلي بالنظر إلى أن الأضرار التي طالت القطاعات الأخرى المشكلة للناتج المحلي كانت أكبر.

ووفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء، فإن "مساحة المحافظة تبلغ نحو 33.06 ألف كم2، وهي بذلك ثاني أكبر المحافظات مساحة، إذ تشكل 18% من مساحة سورية، وقُدر عدد سكانها في منتصف العام 2010 بنحو 1.183 مليون نسمة، أي ما نسبته 5.7% من إجمالي عدد سكان البلاد"، وهي تقسم إدارياً إلى ثلاث مناطق رئيسية هي: منطقة مركز دير الزور والميادين والبوكمال، وتضم نحو 17 مدينة، و14 ناحية، و35 بلدية، و86 قرية، و68 مزرعة.

وكما أشرنا سابقاً، فإن المحافظة تعتمد على قطاعين أساسيين هما الزراعة والنفط؛ ففي القطاع الزراعي كان إنتاج المحافظة من القمح يشكل ما نسبته 8.1% من إنتاج البلاد، ومن القطن نحو 18.5%، ومن الشمندر السكري 6.1%. وكانت تحتفظ بأعداد ليست قليلة من الثروة الحيوانية، فقطيع الأبقار فيها كان يشكل ما نسبته 24.9% من إجمالي القطيع السوري، والغنم 13.8%، والماعز 8%.

أما في القطاع النفطي، فإن المحافظة كانت تضم منظومة نفطية متكاملة تشمل حقول ومحطات شركات الفرات ودير الزور والبوكمال والرشيد، إضافةً إلى معملي غاز كونوكو والعمر للنفط، ومنظومة لنقل النفط الخفيف تشمل أنابيب ومحطات ضخ ومستودعات ومصباً.

وتظهر البيانات الرسمية أن المنظومة النفطية في المحافظة كانت تنتج يومياً عام 2010 نحو 125 ألف برميل، ونحو 5 ملايين متر مكعب من الغاز، ونحو 300 طن من الغاز المسال.

تركة ثقيلة

منيت المحافظة كغيرها من المحافظات التي شهدت وجوداً لتنظيمات وفصائل مسلحة متعددة الأهداف والمرجعيات بأضرار وخسائر كبيرة شملت مختلف أوجه الحياة وأنشطتها الاقتصادية ومؤشراتها الاجتماعية.

وبحسب تقديرات هيئة التخطيط الإقليمي، فإن نسبة الضرر في الوحدات السكنية في دير الزور بلغت نحو 18%، فيما ارتفع الضرر في البنية التحتية ليصل إلى 67%.

وبذلك، تكون دير الزور هي المحافظة الثانية بعد الرقة في حجم الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية، وهو الأمر الذي تسبب بموجة نزوح كبيرة منذ الأشهر الأولى لبداية الأزمة، إلى أن تمكن الجيش السوري من كسر الحصار على المدينة وهزيمة تنظيم "داعش".

وتظهر بيانات المسح الديموغرافي لعام 2018 أن عدد السكان الداخلين إلى المحافظة بلغ نحو 200 ألف نسمة، فيما كان عدد السكان المغادرين نحو 263 ألفاً، أي أن صافي الهجرة الداخلية بالنسبة إلى المحافظة كان سالباً، وهذا ما يجعلها تصنف ضمن المحافظات الطاردة للسكان خلال سنوات الأزمة، والأكثر فقراً أيضاً.

وتشير التقديرات البحثية التي نشرها المركز السوري لبحوث السياسات عام 2020 إلى أن معدل الفقر في المحافظة يقدر بنحو 92%، فيما المعدل على المستوى الوطني قدر بنحو 86%، وكذلك الأمر بالنسبة إلى معدل الفقر الشديد المقدر في المحافظات بنحو 84%، وعلى المستوى الوطني 71%.

اقتصادياً، يمكن القول إن الظروف الأمنية والمعارك العسكرية في المحافظة أدت إلى تراجع حجم المساحات الزراعية، وتضرر قنوات الري، والنقص الحاد في حوامل الطاقة، إضافةً إلى سوء نوعية البذار المتاحة والمهربة من دول الجوار... وهي عوامل كانت كافية لتراجع إنتاج المحاصيل الزراعية بنسب مختلفة، وانخفاض أعداد الثروة الحيوانية بشكل كبير.

ومع تصاعد مجريات الأزمة وتحولها إلى مواجهات مسلحة وانسحاب الشركات الأجنبية منها على خلفية العقوبات الغربية وتراجع الأوضاع الأمنية، بدأت حقول النفط والغاز تخرج تدريجياً عن سيطرة الحكومة لتؤول تدريجياً إلى بعض المجموعات المسلحة، مثل "الجيش الحر" و"وحدات حماية الشعب الكردي"، ومن ثم إلى "جبهة النصرة" وغيرها، أو إلى زعماء وأفراد من بعض القبائل والعشائر.

لكن في كلا الحالتين، كان إنتاج الحقول في أدنى مستوى له بالنظر إلى انسحاب الموظفين والعمال الفنيين من الحقول وتوقف شركات الخدمة عن العمل، وهو ما دفع الجهات المسيطرة على الآبار النفطية إلى الاعتماد على كوادر غير مؤهلة وطرق بدائية لاستثمار هذه الآبار، وتالياً التسبب بأضرار فنية للآبار وتلوث البيئة المحلية، لا سيما مع عمليات التكرير البدائية التي انتشرت بشكل لافت خلال تلك الفترة.

واستمرت مع تمكّن تنظيم "داعش" من السيطرة على ما يقارب 80% من الحقول والآبار النفطية في الجزيرة السورية، وتحولها تالياً إلى مصدر دخل أساسي للتنظيم، وهو النهج الذي اتبعته "قسد" وقوات الاحتلال الأميركي باحتلالها أهم حقول النفط والغاز، كالعمر والتنك وكونوكو وغيرها.

الحل بمشروع وطني

وبناء عليه، فإن ما تواجهه المحافظة من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة لا يمكن معالجته أو مواجهته بمزيد من التفتيت الجغرافي والاقتصادي أو باستمرار الوضع الراهن القائم على "أسر" الريف الشرقي للمحافظة من قبل ميلشيات عسكرية متحالفة مع الأميركي، تعمل على مشروع ليس سورياً بأهدافه وارتباطاته وأجندته الحالية والمستقبلية.

المحافظة تحتاج اليوم إلى مشروع متكامل لإعادة البناء والإعمار، يكون منسجماً ومكملاً لمشروع على المستوى الوطني، وهو وحده الكفيل بتحسين المؤشرات التنموية للمحافظة وضمان عودة اللاجئين والنازحين المنتشرين اليوم في مختلف بقاع الجغرافيا الوطنية.

  المصدر: الميادين نت