هل استطاع "البروكار" الخروج من باب الحارة؟

فن وسنيما 17:57 07-05-2020

بين ما قدمه الفنانان دريد لحام، ونهاد قلعي، في بداية إنتاج الدراما السورية، وبين مسلسل “بروكار” سيناريو سمير هزيم، وإخراج محمد عبد العزيز؛ ستمر مواسم درامية طويلة، غلب على أكثرها المسحة الدمشقية، حتى كادت أن تُختزل الدراما السورية على تنوعها بدراما دمشق.. كما يعود الفضل إلى نجوم هذه الدراما الأوائل في انتشار و”تحبيب” اللهجة الشامية في العالم العربي، ووصلت لتكون “الند” للهجة المصرية انتشاراً وتحبباً..
اللهجة الدمشقية
هذه الدراما التي كانت مُغرقة في لهجتها المحلية “الدمشقية” القديمة كما في أغنية “يا زلسة عالزسر” للراحل “أبو صيّاح – رفيق سبيعي”.. قبل أن تُعرفنا هذه الدراما على مختلف اللهجات السورية، عندما اتجه المنتجون لإنتاج دراما باللهجات المحلية كالحلبية والساحلية والجزيرة والمنطقة الجنوبية.. وأخيراً لتستقر هذه الدراما إلى حدٍّ كبير عند “اللهجة البيضاء” التي كانت القاسم المُشترك بين مختلف اللهجات السورية، والتي يبدو أن كل تلك اللهجات ستصير إليها يوماً بفعل الكثير من العوامل، لعل من أبرزها الدراما..
وفي كل الأحوال، ليس موضوع بحثنا هنا اللهجات السورية، وإنما تمّ الولوج إليها باعتبارها كانت من الملامح التي أعطت للدراما السورية هويتها، ومن خلالها انتشر فنانو الدراما في العالم العربي، وأصبحوا مطلوبين على مختلف الفضائيات العربي كتقديم للبرامج أو للدبلجة، وأيضاً كدراما سورية..
عواقب نفطية
غير أن لهذا الترويج والانتشار؛ كانت له عواقبه أيضاً عندما تدخل “المُستثمر” العربي للاستثمار في هذه الدراما، وكانت حين اختار الحيز الأقدم والزاوية الضيقة من هذه الدراما التي أثبتت تلونها وتنوعها بنخبة من الأعمال الدرامية مثل: إخوة التراب، نهاية رجل شجاع، زمن العار، الانتظار، الندم ، الحصرم الشامي، غزلان في غابة الذئاب، ضبو الشناتي، بكرى أحلى، أحلام كبيرة، قاع المدينة
ضيعة ضايعة، وغيرها الكثير، وقد جاء هذا “المُستثمر البترولي”
“ليُكوّع” بالتنوّع الدرامي السوري صوب النوع الواحد، ولم يكتفِ بأن حصر الدراما السورية ب”دراما دمشق” القديمة، بل حمّل في طيّات وتفاصيل هذه الدراما مقولاته هو، وذهنيته وثقافته هو، وفي الكثير منها؛ كانت رسائل تخريبية تحملها هذه الدراما ليس للسوريين وحسب، بل لكل الناطقين بالعربية في العالم العربي، ومن ثمّ وبعد أن عوّلت الدولة السورية على أن تحمل هذه الدراما التعريف والترويج للسياسة والثقافة السوريتين؛ وإذ بها تُحمّل برسائل مُضادة..
صعود وهبوط
الدراما السورية التي أمست خلال عقد التسعينات على رأس الهرم في الدراما العربية، أصابتها انتكاسة مع بداية عقد الألفين، وذلك بالتكثيف بإنتاج الدراما ذات اللون الواحد “دراما البيئة الدمشقية” كما صار يطلق عليها.. وحتى ننصف هذه الدراما – دراما دمشق؛ ففي سجلها الكثير من الذهب، تبدأ بالتحفة الفنية “أسعد الوراق” وكل الخشية أن تكون وصلت إلى خواتيمها مع التحفة الفنية الأخرى “حمّام القيشاني”، وهنا لا ننسى أبداً سجلها الذهبي بالأسود والأبيض من خلال أعمال (نهاد ودريد) مثل: “حمّام الهنا، وصح النوم، وغيرهما”.. بعد ذلك يأتي دور التكريس فيما أطلق عليه الكثير من النقاد “فنتازيا دراما دمشق” بمعنى اختلاق أحداث، وتكريس عادات، والتغني بحالات غريبة عن دمشق، حتى أن صُنّاع الدراما أنفسهم أكدوا مثل هذا النقد، وشكّل لهم مُخرجاً، عندما تهربوا بقولهم “نحن لا نسرد تاريخ دمشق، وإنما نؤلف حكايا افتراضية على خلفية البيئة الدمشقية” لكن ما لم يكن في حساباتهم، أو كان، ولم يعيروه اهتماماً طالما “البترودولار” متدفق؛ إنّ نسبهم تلك الحكايا الافتراضية لدمشق وحاراتها بكل ما تحمله من طابع عمراني وأزياء دمشقية، كرست تلك الحكايا البالية على أنها توصيفاً لدمشق، وذلك بما تحمله أقدم عاصمة في العالم كرمز لسورية كافة.. ربما كان بعض تلك الحكايا موجوداً في دمشق، وبعضها قد يكون لازال قائماً، لكن كم هو حجمه، وما هي مساحته، هو موجود أكيد، لكن الأكيد وجوده في حدودها الدنيا..
مرحلة بعينها
المرحلة التي أنتج عنها تلك الأعمال هي مرحلة واحدة من تاريخ دمشق، لا تتعدى الربع قرن، وتحديداً خلال مرحلة الانتداب الفرنسي على بلاد الشام، وليس على دمشق وحدها، وقد جرى تعتيم كامل على فترة الاحتلال العثماني الذي قضى أربعمئة سنة جاثماً على صدر هذه الأمة التي تُدعى العالم العربي، تعتيم شبه كامل إلا ما ندر؛ كان مقصوداً ومُتعمداً طول الوقت، وهنا نُذكّر أنه في تاريخ الدراما السورية تحفة فنية هي الأخرى، وأقصد بذلك “أخوة التراب” للكاتب حسن م يوسف، وإخراج نجدة أنذور التي فضحت أسوأ احتلال في تاريخ العالم كله، وليس في تاريخ العالم العربي.. غير أن تحفة (يوسف – أنزور) للأسف لم يتوالد عنها ما يُشبهها على الأقل، حتى وأن ذكر من أمر الاحتلال العثماني في هذه الدراما؛ فكان بخجل شديد، ففي أحد المسلسلات عندما خرج العثماني، ودخل الفرنسي، أراد أحد الجنود العثمانيين أن يبقى مُقيماً في “شام شريف” – وأظن المسلسل هو زمن البرغوث إن لم تخني الذاكرة – فما كان من “أعضوات الحارة” إن رحبوا بإقامته وهو الذي كان لا يمل يجلدهم في “الكراكون” لمئات السنين، ليس هذا وحسب بل قاموا بتزويجه من إحدى بنات دمشق!!
تسكير الحارات
المهم في كل تاريخ هذه الدراما التي أحدث لها خلفية تاريخية كانت (دمشق بين 1920 و1946) أي ليس من عدو واحتلال عثماني، وكأن التركي لم يمرّ من هنا أبداً.. على هذه الخلفية الفرنسية من الانتداب صارت هذه الدراما تتناسل وتُفرّخ كالفطر، “الكراكون” نفسه، الحارة ذاتها، وأن تغيرت أسماء الحارات، الخضرجي واللحام والنساء الطبّاخات الشتّمات هم جميعهم أنفسهم في كل المسلسلات، وحتى الشروال والشاروخ والقبضاي والعكيد والحرامي والمختار والزعيم، هنا الحارة المُغلقة والمُكتفية بذاتها، حيث عدوها ليس الفرنسي، وإنما عدوها لا يبتعد أكثر من الحارة المجاورة.. هكذا ستتناسل وتتوالد سلسلة “باب الحارة” ذات الصيت السيئ على الشام وعلى سورية، تلك الحارة التي لم تغلق أبوابها في وجه كل المناطق السورية فقط، بل في وجه الحارات الأخرى الدمشقية نفسها، حيث لكل حارة زعيمها وعكيدها وزعرانها ونسوانها، وبعض المهن البسيطة، هكذا متناسية وعن عمد أيضاً أجمل ما في تاريخ هذه الحارات والتي تُسجلها كتب التاريخ، بأنه في دمشق أسست النساء الرابطة الأدبية سنة 1922م. وكذلك كان يوجد المجلس الأدبي للسيدتين (مريانا مراش) و (ماري عجمي) الذي ضمَّ عمالقة الأدب والفكر من دمشق والمحافظات السورية الأخرى، والذي كان أصدر أول صحيفة نسائية عربية كانت تسمى صحيفة (العروس). وهناك صالون السيدة زهراء العابد الأدبي الثقافي 1930م. جمعية يقظة المرأة الشامية سنة 1927 التي هدفت إلى تشجيع عمل النساء في الريف، وإحياء وتنظيم الصناعات اليدوية التقليدية. وعشرات الجمعيات النسائية والثقافية غيرها.. كما يُروى إنه كان في دمشق أكثر من أربعمئة عيادة طبية، وليس المداوة عن الشيخ فقط.. كل ذلك تمّ التعتيم عليه لصالح العنف والانغلاق..
بروكار سورية
مسلسل “بروكار” الذي يُعرض هذا الموسم على أكثر من فضائية، والذي يأخذ من هذه الصناعة الدمشقية الممتدة إلى سورية كلها والتي عرفتها مختلف حضارات العالم، يأتي هذا المُسلسل ليضع نقطة على أخر سطر في تلك الدراما التي ألصقت بدمشق زوراً، التي استنفذت كل مقولاتها وجمالياتها، ويرد الاعتبار لدمشق الثقافة والطب وصناعة الحرير..
هنا الحارة نفسها تقريباً، لكن صُنّاع “البروكار” يُضيفون لعملهم الفني “المشغل” والمشفى، يضيفون رأي للمرأة، رأي في الاحتلال، وفي نبذ عادات ليس من بنية الدين الصحيح، يُضيف التسامح مع المرأة والناس بدل تكريس العنف والعنتريات، وعادات كان المستعمر الأسيوي والسلجوقي والعثماني هو من جلبها معه خلال احتلاله لسورية، وباقي العالم العربي، فهو ولأنه ادعى أنه “مسلماً فاتحاً” – وهنا استغرب من فتح بلاد هي بلاد مسلمة، بل كانت مركز انطلاق الإسلام للعالم – أراد أن “يزاويد” على المسلمين في إسلامهم؛ بأن فرض عليهم عادات ليست من الإسلام في شيء، وهو ما ناقشه وطرحه مسلسل “بروكار” وهذه تُحسب له، لاسيما طروحاته في مسألة النقاب.. ويُحسب له فتح أبواب الحارة الدمشقية ليس على باقي حارات دمشق، بل على سورية كلها بمناطقها وطوائفها وقومياتها.. فصناعة “البروكار” النسيجية، تحتاج لكل المناطق السورية لقيامها، فحريرها من الساحل السوري، لاسيما من الدريكيش وصافيتا، وخيوط الذهب والفضة تحتاج لمهارة الأرمن الحلبيين، وتنفيذ وتشكيل كل ذلك في نسيج واحد؛ كان في المشغل الدمشقي، هنا في دمشق حيث المسيحي والأرمني والمسلم يصنعون نسيجهم الوطني مجازاً وواقعاً، وأن اتخذ “البروكار” رمزاً جميلاً لهذا الثوب الفاخر، وهذا ما نجح فيه صُنّاع “البروكار” كمسلسل، ولأن الأمر كذلك، سأسامح من جهتي في بعض الهفوات في صناعته..