بقلم: تمارا برو
يعترف الجانبان الصيني والأميركي بأن هناك اختلافات كبيرة بينهما، ويعملان حالياً على التباحث والتشاور في الأمور الاقتصادية؛ نظراً إلى صعوبة التفاهم حول الأمور السياسية.
شهدت الصين خلال الأشهر الأخيرة حركة زيارات مكثفة لمسؤولين أميركيين سعياً لتخفيف حدة التوتر بين أكبر اقتصاديْن في العالم، وآخر هذه الزيارات تلك التي قامت بها وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، لبكين والتقت خلالها عدداً من كبار المسؤولين الصينيين، بالإضافة إلى مسؤولين تنفيذيين في الشركات الأميركية التي تعمل في الصين.
وتأتي زيارة يلين بعد أن شهد حجم التبادل التجاري بين البلدين تراجعاً خلال النصف الأول من العام 2023 بنسبة 14.5%، وبعد أن غيّرت الصين نهجها من سياسة الدفاع إلى المواجهة، إذ فرضت قبل زيارة يلين قيوداً على صادرات الغاليوم والجرمانيوم، المعدنيْن الأساسييْن لإنتاج أشباه الموصلات، وعدّلت من قانون مكافحة التجسس، وحظرت في شهر أيار/ مايو الماضي منتجات شركة "ميكرون" الأميركية المصنّعة للرقائق الإلكترونية.
وخلال زيارتها، أعربت الوزيرة الأميركية عن مخاوف واشنطن بشأن ممارسات الصين الاقتصادية "غير العادلة"، والإجراءات العقابية الأخيرة ضد الشركات الأميركية. ومن الأمور التي أثارها الجانب الصيني احتمال أن تمنع إدارة بايدن الاستثمار الأميركي في التكنولوجيا الفائقة في الصين. كما عرضت بكين على يلين خمسة مطالب بهدف تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية منها التوقف عن قمع الشركات الصينية وفرض الرسوم الجمركية وقيود الاستثمار، فضلاً عن إلغاء حظر المنتجات من إقليم شينجيانغ ذي الأغلبية المسلمة، إذ قامت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن العام الماضي بفرض حظر على استيراد المنتجات من إقليم شينجيانغ.
على الرغم من أن جانيت يلين لقيت ترحيباً حاراً من جانب الصينيين على عكس الترحيب الذي حظي به وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن عندما زار بكين الشهر الماضي، واتسمت المحادثات بين المسؤولة الأميركية والصينيين بالهدوء والصراحة، يمكن القول إنها أحدثت خرقاً كبيراً. فوزيرة الخزانة الأميركية دافعت عن الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية والرامية إلى تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا الأميركية المتقدمة باعتبارها ضرورية للأمن القومي الأميركي. في المقابل، تطلب بكين من واشنطن إزالة القيود المفروضة على أشباه الموصلات والتي ترى فيها بكين محاولة أميركية لاحتواء الصين وإعاقة نموها التكنولوجي.
كما لم تتعهد يلين بإلغاء أو تخفيف الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على السلع الصينية، ولا القيود التي فرضها بايدن على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين. وأوردت تقارير غربية أن واشنطن ستعلن قريباً خطتها لحظر شركة Nvidia من شحن رقائق الذكاء الاصطناعي A800 وH800 إلى الصين. وكذلك تقييد الأموال الأميركية من الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا الفائقة في الصين. وفي إطار آخر، شجعت يلين على التعاون من أجل معالجة المشكلات العالمية مثل تغير المناخ، وأعباء ديون البلدان منخفضة الدخل، ولكن في ظل التوتر الشديد الذي يسود العلاقات الصينية - الأميركية فإنه من غير المأمول أن يتعاون الطرفان في مواضيع مختلفة مثل تغير المناخ، إذ ترى بكين أنه لا يمكن التجزئة بين الاقتصاد والسياسة والتعاون مع واشنطن في مواضيع ثنائية وعالمية بمعزل عن العلاقات العامة بين البلدين.
وبالتالي، فإن التعاون بين واشنطن وبكين في مجالات مختلفة سيتأثر بأي احتكاك أو توتر يؤدي إلى تعميق انعدام الثقة المتبادلة.
إزالة المخاطر وليس الانفصال
تبنت الإدارة الأميركية المصطلحات التي قدمتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي دعت إلى التخلص من المخاطر وليس الانفصال عن الصين ( De-risking, but not decoupling)، ففي حديثه للصحافيين على هامش قمة هيروشيما قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إن الولايات المتحدة الأميركية تتطلع إلى إزالة المخاطر وليس الانفصال عن الصين، وهو ما أكدته وزيرة الخزانة الأميركية في أثناء زيارتها لبكين، وشددت على أن فك الارتباط بين أكبر اقتصاديْن في العالم مستحيل، وسيكون كارثياً لكلا البلدين، وسيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في العالم.
فيما ترى الصين أنه ليس هناك اختلاف بين المفهومين اللذين يهدفان إلى عرقلة نموها الاقتصادي، لا سيما في قطاعات التكنولوجيا، إذ تنظر بكين إلى إجراءات إزالة المخاطر الأميركية في بعض قطاعات التكنولوجيا الفائقة على أنها إجراءات هجومية تهدف إلى تأخير تقدمها.
لقد أدت الرسوم الجمركية المفروضة وقيود الاستثمار إلى تراجع التبادلات الاقتصادية بين بكين وواشنطن في حين استمرت البضائع التي لم تطلها القيود في النمو، فعلى سبيل المثال، وفقاً لدراسة أعدّها شاد براون من معهد "بيترسون" للاقتصاد الدولي، انخفضت واردات الولايات المتحدة الأميركية من السلع الصينية في ظل زيادة التعريفات الجمركية بنسبة 25% من عام 2017 إلى عام 2022، بينما زادت واردات السلع غير الخاضعة للضرائب بنسبة 42% ما دفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى مستوى قياسي بلغ العام الماضي أكثر من 690 مليار دولار أميركي.
وإذا كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرض الرسوم الجمركية على السلع الصينية بغرض خفض العجز التجاري مع الصين، فإن أميركا سجلت عجزاً تجارياً بقيمة 382 مليار دولار مع الصين في العام 2022 مقارنة بعجز قدره 375 مليار دولار في عام 2018 في بداية الحرب التجارية التي شنّها ترامب. وهذا يدل على فشل الإجراءات الأميركية المتخذة لتقليص العجز التجاري الأميركي مع الصين، ويشير إلى مدى ارتباط اقتصاد كلا البلدين ببعضهما البعض.
يعترف الجانبان الصيني والأميركي بأن هناك اختلافات كبيرة بينهما، ويعملان حالياً على التباحث والتشاور في الأمور الاقتصادية؛ نظراً إلى صعوبة التفاهم حول الأمور السياسية. ما تريده بكين اليوم من واشنطن أن تتخذ خطوات جدية لتحسين علاقاتها معها منها، على سبيل المثال، إلغاء الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية، لكن في المقابل، ترى واشنطن أن قيامها بإجراءات أحادية الجانب يظهر ضعف الإدارة الأميركية، وهذا ما لا يناسبها، خاصة في الوقت الحالي في ظل انتخابات رئاسية أميركية مرتقبة العام القادم.
في المحصلة، تمثل زيارة يلين إلى الصين خطوة إيجابية لتخفيف التوتر وعدم تدهور العلاقات بينهما أكثر، وكذلك مهدت الطريق لزيارة مسؤولين أميركيين للصين، إذ إن هناك زيارة مرتقبة لمبعوث الولايات المتحدة الأميركية لشؤون المناخ جون كيري إلى الصين، ومن المحتمل أن تقوم وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو بزيارة الصين أيضاً.
وإذا استمرت العلاقات بين البلدين على هذه الوتيرة من دون أن يحصل أي حادث يدفع بها إلى الانزلاق، فمن المحتمل أن يلتقي الرئيس الصيني الرئيس جو بايدن على هامش قمة مجموعة العشرين في الهند المقرر عقدها خلال شهر أيلول/سبتمبر القادم، وربما يزور الرئيس الصيني أميركا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر لحضور منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ.
وبشكل عام، فإن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأميركية لن تتحسن إلاّ بعد أن يتنازل كل طرف للآخر إذ إنّ كليهما يسعيان إلى الحفاظ على مصالحهما الجوهرية ما يعمّق الخلاف بينهما ويزيده.
المصدر: الميادين نت