بقلم: أ. د. بثينة شعبان
لا يعلم المرء أي موضوع يتناول في خضمّ أحداث إستراتيجية تطول مصير البشرية، في الوقت الذي يكرّس نفسه الإعلام الغربي كعادته، لحملات تضليل، إذا ما نجحت، يمكن أن تحرف الإنسانية عن مسارها وتسبب لها أضراراً من المستحيل درؤها أو حتى التخفيف من آثارها في المستقبل المنظور، وقد يكون أهمّ ما في الأمر هو أن نبحث عن همزات توصل بين أحداث قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن بعضها وغير مترابطة، فقط لنكتشف، بعد عميق تأمّل، أن المحرّك لمجريات تبدو متباعدة هو هدف واحد على الأغلب صادر عن حقد ونزوع لإلحاق الأذى من أجل التفرّد بالسلطة أو المال أو بكليهما معاً.
انشغل الإعلام الغربي في الأسبوع الأخير بمسألة القوات الروسية في أوكرانيا ومصير قوات «فاغنر» ورئيسها، ولكن النتيجة الوحيدة التي توصل إليها هي إذكاء نار الحرب من خلال إمداد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة والصواريخ، ولا شكّ المزيد من المرتزقة لإطالة أمد هذه الحرب، وتشغيل مصانع السلاح الأميركية وتحقيق أرباح خيالية، بإيقاع المزيد من الدمار والقتل والتهجير واللجوء والمصائب الإنسانية على الأطراف جميعها، وكلّ هذا من أجل المضيّ قدماً في إثبات الهيمنة الغربية واستمرار تحكم المجتمع العسكري الصناعي وأدواته من أجهزة مخابرات أخطبوطية، وإعلام مجنّد لخدمة أجندات الحروب والترويج لها بإشعال نار الحروب، حرباً بعد أخرى خدمةً لأموالهم وثرواتهم، وأيضاً، ومن ناحية أخرى، السير بإستراتيجية إحداث نقص ملحوظ في عدد السكان والسياسيين الطبيعيين؛ لأن العنصرية لا تريد كلّ هؤلاء البشر على وجه البسيطة، بل تريد أن تستحوذ على ثروات الأرض للقلّة القليلة التي تراها من وجهة نظرها العنصرية جديرة بالحياة، في حين لا يرتقي الآخرون إلى هذا المستوى.
من هذا المنظور يتمّ قتل شاب عربي في باريس، في حين يتعرّض العرب في كل مكان في الغرب إلى إجراءات عنصرية مشبوهة لا تليق أبداً بمن يدّعي الحرص على حقوق الإنسان وعلى حريته والمساواة بين أبنائه، وإن تكن هذه النظرية عن الغرب قد سقطت لدى كلّ المتابعين الحقيقيين، وانقشع ضباب ادّعاءاتهم بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وظهرت حقيقة منطلقاتهم للحكم والعلاقات بين الدول والشعوب، وما التظاهرات والاحتجاجات على قتل شاب عربي إلا محاولة للترويج لوهم المساواة بين المواطنين، في حين يعاني العرب في فرنسا، وعلى مدى عقود عنصرية قاتلة وإهمالاً متعمّداً للأحياء والمدارس والخدمات لكلّ من هو عربي، ليس في فرنسا فقط وإنما في الغرب بشكل عام.
لكنّ الوجه الجديد لهذه العنصرية خطير ومشؤوم في آن واحد، حيث تعمد السلطات الغربية إلى سرقة الأطفال من أهاليهم بذرائع سخيفة، إذ لا يوجد على وجه الأرض ما يبرّر استلاب الأهل أولادهم، والذي كان شائعاً فقط في عصر العبودية وعصر استعمار الرجل الأبيض للولايات المتحدة وأستراليا وكندا، حين عمدت السلطات لانتزاع الأطفال من أهاليهم ووضعهم في مراكز يعملون بها على حرمانهم من الحديث بلغتهم الأمّ، ومعاقبتهم أشدّ العقوبات إن فعلوا ذلك، وتعليمهم اللغة الإنكليزية، وحرمانهم من كلّ الأواصر والعادات المجتمعية التي نشؤوا عليها وذلك بذريعة أن الإنسان الغربي يريد أن يخلّصهم من تخلّف قومهم وإنشائهم نشأة حضارية حسبما يعتقد الإنسان الغربي العنصري الذي ينظر إلى الشعوب الأخرى وإلى ثقافاتها ولغاتها وحضارتها نظرة دونية.
وما العدوان على كتاب اللـه «القرآن الكريم» في أول يوم من أيام عيد الأضحى المبارك إلا وجهاً آخر من أوجه هذه العنصرية البشعة التي تنتهك حرمة كتاب نصّ في سوره وآياته على المساواة بين البشر، وخاطب الناس وليس المسلمين فقط بأن إلههم إله واحد، وأنّ «أكرمكم عند اللـه أتقاكم»، وأنّ «خير الناس أنفعه لعباده»؛ أي إنه نصّ على منهج مجتمعيّ لا وجود فيه للعنصرية الغربية أو الاستعلاء أو الأذى، بل معيار الإيمان بالله هو العمل الصالح والرأفة والرحمة بالإنسان والمجتمع.
وكلّ هذه الأحداث من حروب ومظاهر للعنصرية الغربية البشعة، وإثارة الفتن بين الديانات والشعوب تصل ذروتها في التوجّهات الجديدة للغرب بالعدوان السافر على الأطفال والطفولة، ومحاولة سرقة براءة الأطفال وتوظيفها بما يخدم مخططاتهم كي ينحسر عدد سكان العالم إلى العدد الذي يرتؤونه ويناسبهم، وكي يشوّهوا إنسانية الإنسان، ويصبح من الأسهل عليهم التحكّم في توجّهاته وأعماله وحركاته لأنه يخسر توازنه وقدرته على أن يشكّل موقفاً سليماً وإيجابياً من الحياة ومن أي مسألة تعترض طريقه.
إن هذا العدوان على براءة الأطفال والتحكّم بتوجّهاتهم النفسية في سنّ هم غير قادرين على اتخاذ قرار لهو قمّة الآثام والشرور التي أنتجها الغرب في العصر الحديث، وهذه هي أخطر حرب يشنّها ضدّ الإنسانية برمّتها، ولذلك فإن الواجب يقتضي أن تصدر الدول تشريعات تحمي أبناءها وأطفالها في سنيهم المبكّرة، وأن تقوم الدول بحملة عالمية تصدر موقفاً واضحاً وجريئاً ضدّ ما يتعرّض له الأطفال، وما يمكن أن يتعرّضوا له إذا ما استمرّت هذه الحملة المشبوهة والمحمومة ضدّهم.
لقد أطلق عمال العالم في الماضي حملات للوحدة في وجه الاستغلال الرأسمالي لجهودهم وقواهم، ولكن ما تتعرّض له إنسانية الإنسان اليوم، وخاصةً الأسرة وكلّ ما تقدّمه الأسرة من ملجأ عاطفي وإنساني وأخلاقي لأبنائها لهوَ الأخطر في تاريخ البشرية، ولذلك فهو يستحقّ أن يتمّ التعامل معه في منتهى الجدّية والحرص والمثابرة. يقول اللـه تعالى في كتابه الكريم عن الشيطان: «لعنه الله، وقال لأتّخذنّ من عبادك نصيباً مفروضاً…. ولآمرنّهم فَلَيُغَيِّرُنّ خلق الله» (النساء 119)، وهذا بالضبط ما يقوم به البعض، فهم يعمدون إلى تغيير خلق الله، وهذا عمل شيطاني لعنه الله، لأنه يلحق بالغ الأذى بإنسانية الإنسان ومسار حياته المنطقي والسليم. إن ما نتعرّض له جميعاً ليس أحداثاً منفردة بل مخطط شيطاني يتجلّى في الحروب العقيمة والعنصرية البغيضة والامتهان اللامسبوق لبراءة الطفولة وإنسانية الإنسان وقيمة كتاب الله، وحقوق وسلامة الإنسان وقيمته ووجوده.
- الوطن-